المقال وقفة قصيرة مع كاتب ياسين في رائعته العالمية ( نجمة ) ، هذا النص الرائد و الرائع الذي ما انفك يثير أسئلة القراء و النقاد ، مثلما يثير اعترافهم و إعجابهم أيضا
رمزية ( نجمة ) عند كاتب ياسين
يعد الأديب الجزائري كاتب ياسين – رحمه الله – أقوى قلم تصدى لموضوع تشويه الاستعمار الفرنسي للهوية الجزائرية ، و أقواها على الإطلاق ، ذلك أن هذه القضية بالذات هي هاجسه المركزي في أغلب كتاباته الروائية مثل ( نجمة ) أو المسرحية مثل ( الجثة المطوقة ) و ( الأجداد يزدادون ضراوة ) ، وحتى في قصائده ودواوينه الشعرية ، ففي تعابيره يصدح صوت المآسي الخرساء ليصور في جمال إبداعي ساحر آلام الجزائر وهي تعاني الاجتثاث والاستئصال والتشويه والمسخ والاستلاب .
لقد عاين كاتب ياسين هذه الجراح منذ طفولته إذ اكتوى بعذاب الاستعمار وذاق مرارة السجن والتعذيب وعمره لم يتجاوز السادسة عشر ربيعا . حيث شارك في مظاهرات 08 ماي 1945 بسطيف ، فاعتقل وعذب وعندما أطلق سراحه بعد أشهر ، وجد المأساة في انتظاره بداية من أمه التي جنت لأنه قيل لها بأن فلذة كبدها ( ياسين ) قد قتل في المظاهرات ، ثم والده الذي طرد من العمل بسبب انتماء ابنه ( ياسين ) للمتمردين ، هذا بالإضافة إلى أن إدارة المدرسة التي يتتلمذ فيها ( كاتب ياسين ) قد قررت شطبه من قائمة المتمدرسين بسبب مشاركته في المظاهرات .
كل هذه التجارب المرة وضعت ( كاتب ياسين ) وجها لوجه أمام ( نجمة ) هذا الحب الكبير الذي أزهر في أعماقه وهو داخل زنزانة السجن ، إنها الجزائر في مرآة القلب ونجوى الفؤاد ، فمن خلال رمزية الحبيبة ( نجمة ) عبر الكاتب عن آلام الجزائر وآلامها ، ذلك أن الموقف من المرأة – كما يقول (جورج طرابشي)- يحدد الموقف من الإنسان ومن المجتمع ومن الوجود بأسره ، فنجمة هي المرآة التي حققت للكاتب عمق المنظورية إذ يكون الناظر منظورا والمنظور ناظرا .
وعلى النقيض من الكتاب الرومانسيين ، لا يضعنا ( كاتب ياسين ) أمام فتاة مثالية كاملة الملامح والأبعـاد ، بل إنه – في واقعية جارحة – يلخص الجزائر في امرأة حتى وإن كانت جميلة في شكلها إلا أنها مشوهة وممسوخة في أصولها وهويتها ، فنجمة فتاة بدأت حياتها في أحشاء أمها ذات ليلة أمضتها تلك الأم الفرنسية العاهرة والمستهترة في مغارة جبلية مع رجلين جزائريين من قبيلة بني قبلوط ( قبيلة كاتب ياسين ) قاداها إلى هناك ثم تنازعاها ، فقتل أحدهما الآخر وانفرد بها فحملت منه ثم أنجبت هذه الفتاة اللقيطة والتي تدعى ( نجمة ) . وهكذا أمضت ( نجمة ) حياتها موزعة بين أمها الفرنسية ، وأبيها الجزائري ، وامرأة جزائرية عاقر تبنتها ثم زوج جزائري خامل تكرهه ، إلى أن عاد الصواب إلى أبيها الكهل ، فاختطفها من زوجها ، وصعد بها جبل الأجداد حيث أعادها إلى مرابع آبائها قبل أن يموت .
وفي ربوع جبل الأجداد عاشت ( نجمة ) حب الشباب وهيامهم بها ومنهم ( الأخضر ) وهو ( كاتب ياسين ) ذاته، فنجمة إذن كما يقول عنها الكاتب ما هي إلا رمز ، ( إنها الجزائر نفسها ، إنها الوطن الضائع ، والماثل أبدا . إنها هذا الوطن الذي ينبغي خلقه من جديد ، هناك في أعالي الجبل ، جبل الأجداد ) . ولذلك يقترح ( كاتب ياسين ) الثورة المستمرة حلا للقضاء على ما طال الجزائريين من تشويه ومسخ ، وذلك حتى تتمكن الجزائر من تلمس طريقها واستعادة هويتها ، ففي مسرحية ( الجثة المطوقة ) مثلا تردد الجوقة وهي لسان حال الشعب قائلة :
… يا مجاهدي الجزائر
لا تتركوا معاقلكم
إن ساعة المعارك ما تزال بعيدة
يا مجاهدي الجزائر
ومن الواضح أن الجزائر في حاجة حقيقية إلى ثورة ثقافية مستمرة ، تنفض عنها غبار الاجتثاث الذي مسخ هويتها وشخصيتها ، إنه يضعنا وجها لوجه أمام مرآة نفوسنا ، أمام نجمة : ( نجمة التي يتنازع الرجال أبوتها .. لكأن أمها الفرنسية قد حكمت عليها بأن تكون كالزهرة السامة التي لا يمكن استنشاق عبيرها .. لقد لوثتها أمها في أعماق جذورها ) هذا هو مدلول الإدانة التي يمكن توجيهها للاستعمار الفرنسي بخصوص الجريمة الكبرى التي اقترفها في حق الشعب الجزائري ، هذه الجريمة التي لا تكمن في قتل ملايين الشهداء الجزائريين وحسب ، ولكن في سجن ماضي الجزائر وحاضرها ومستقبلها من خلال مسخ تاريخها والقضاء على لغتها ومثلها وتقاليدها .
إن الوطن الذي تركه لنا الاستعمار الفرنسي بعد خروجه من الجزائر ، والذي يحلو لبعض المغرضين تمجيد إنجازاته وإيجابياته ، في إطار ما يسمى بحملة تمجيد الاستعمار ، هو هذا الوطن الذي أبدع كاتب ياسين رمزيته ، فشخصه في صورة الفتاة ( نجمة ) المحاصرة بكل أشكال المسخ والتشويه ، وسيظل كاتب ياسين أقوى أديب فضح الاستعمار في رمزية شفافة ، إنه مثل ذلك المحارب الأسطوري الذي يسلب سلاح عدوه ليدحره به قبل أن يقضي عليه ، ففي حربه ضد الاستعمار الفرنسي ، جعل من اللغة الفرنسية غنيمة حرب يقارع بها هذه الأمومة الفرنسية الرعناء حيث يصور قطيعته مع الاستعمار وإحساسه بمرارة التشويه الثقافي فيقول :
« Jamais Je n’ai cessé, même aux jours de succès prés de l’institutrice, de ressentir au fond de moi cette seconde rupture du lien ombilical, cet exil intérieur qui ne rapprochait plus l’écolier de sa mère que pour l’arracher, chaque fois un peu plus, au murmure du sang, aux frémissements réprobateurs d’une longue bannie secrètement, d’une même accord … Ainsi avais – je perdu tout à la fois ma Méré et son langage. les seuls trésors inaliénables et pourtant aliénés . »
كاتب ياسين يختلف عن عموم كتاب الجزائر في كونه لم يتحدث في إبداعاته عن القتل الحقيقي الذي طال الجزائريين على يد زبانية الاستعمار الفرنسي ، و لكنه تحدث عن القتل الرمزي ، قتل الجزائر في هويتها و شخصيتها و وجودها ، إنه في هذا المقطع الرائع يوجه أصابع الاتهام للاستعمار الفرنسي معبرا عن شعوره بالاغتراب والقطيعة مع ذاته وإحساسه بالضياع عندما فقد أمه ولغتها ، إنها ربما طريقة أخرى لاعترافه بالغربة والمنفى على غرار ما صرح به مالك حداد عندما قال:( الفرنسية منفاي ) ، ثم سكت عن القول المباح . فهل يمكن بعد هذا أن يتحدث بعض الخلق هنا أو هناك عن إيجابيات الاستعمار ؟؟
الكتاب المسموع( رواية نجمة ) لكاتب ياسين في” ثمانية اجزاء” بمناسبة الجزائر عاصمة الثقافة الاسلامية لسنة 2011 للتحميل من هنا
http://www.4shared.com/dir/5-x3Ay97/____8_________2011.html
http://www.filesin.com/CA2FC351464/download.html:للتحميل من هذا الرابط